شواهد كثيرة تؤكد لي هذه القناعة؛ وكذلك لكل من يمكن أن يخوض تجربة التأمل العميق؛ فيما خلف الظواهر المخادعة، حين يتقبلها العقل البشري من دون لحظة شك وجيزة. لذلك هناك من الفلاسفة من رهن وجود الإنسان بممارسته الشك؛ وهو الفيلسوف رينيه ديكارت الذي قال "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". وهي قاعدة فلسفوية صحيحة؛ لأن "اللَّاموجود لا يُفكِّرُ ولا يُتَفَكَّرُ فيه؛ وانتفاء الوجود ينفي التفكر".

إن "مهارة الشك" تلك سوف تقودك لليقين الحتموي، بوجود الإله غير المنظور لك بسبب محدودية قدراتك على الإدراك؛ لكن بعقلك الذي هو نفحة من نفحات الخالق لك ستهتدي إلى وجوده اليقينوي المطلق؛ داخلك وخارجا عنك!

*****

قطتي... معلمتي

هذه المقدمة أذكرها مجللة بمشاعر الامتنان العميقة التي كنت ولا أزال أكنها إلى قطتي الراحلة "بيسو" خلال رحلة حياتها في بيتي؛ وعشت لحظة مأساة فراقها الوجودوي وهي التي كانت مصدر تحريض لي للتأمل، وساعدتني على تغيير المفاهيم المحيطة بعالم الحيوان بصفة عامة والقطط بصفة خاصة؛ بعد أن عشت تجربة تربية الكلاب في طفولتي وشبابي الأول.

قطتي "بيسو" بحق كانت لسنوات طويلة "12عاما عاشتها في بيتي"معلمة لي؛ قادتني للاقتراب من ذلك العالم الناعم الوديع واكتشاف أسراره الوجدانوية؛ وممارسة طرح الأسئلة والمقارنة وصولا إلى قناعات، أبرزها كما ذكرت في مفتتح هذه الكتابة أن "الإنسان هو الكائن المادي المتجسد الوحيد على الأرض الذي يمكن أن يضمر الحقد والبغض والشر منفرداً عن بقية أنواع الخلق الأخرى."

لقد كانت شجوني عميقة حول قطتي الراحلة "بيسو"؛ والتي اعتبرت غيابها بالموت حدثا جللا، لأنها التي علمتني أشياء كثيرة؛ وهزتني كثيرا؛ فاكتشفت أن الإنسان صاحب العقل والتفكير ليس سوى كينونة عمياء مغرورة؛ لا ترى إلا لنفسها، فيما لخَّصت "نملة سليمان" مشكلة هذا الانسان الذي يدب على الأرض كلها؛ حين لا يرى إلى ما أسفل قدميه؛ ويمضي في طريقه مغتراً رافع الرأس متعالياً.

*****

حكاية قطتي "بيسو"

لقد دخلت قطتي "بيسو" بيتي شابة صغيرة مشاكسة، وظلت بيننا إلى أن صارت قطة عجوزا، ظهرت عليها علامات فعاليات السنون. ولا ينبغي أن يتعجب البعض من هذه الكلمات وهذه المسلكية في الارتباط بقطة، فقد كان ارتباطا إنسانويا من جانب، وارتباطا معرفويا من جانب آخر، فهذه الكائنات التي انتزعها الإنسان بقسوة من عالمها الطبيعي في مملكة الحيوان وقام بتدجينها؛ فحولها إلى موجودات مُعالة منا لنكسر بذلك أول شروط التوازن الحيوي في الواقع.

كان الإنسان أنانيا بالممارسة حين قام بــ "تبييت" فصيلة القطط منزليا؛ ولم يتركها تعيش في عالمها. لقد اعتدى على وجودها؛ وجعلها كائنا متواكلا عليه، والأخطر أنه حولها إلى مستهلك شره؛ يدر ملايين الدولارات في جيوب رأسمالوية صناعات غذاء وحاجيات القطط، وقدم لها غذاء معولبا مُنكَّها بالروائح الاصطناعية. إنها جريمة ذلك الإنسان الذي يقوم بتغيير فطرة بعض الحيوانات التي تمكن من الهيمنة على حياتها حين قام بتدجينها بكل أنانيته المقيتة.

*****

كم همست في أذني؟

اعتادت قطتي لفترات طويلة أن أستيقظ لأداء صلاة الفجر، وذات يوم عدت من عملي متأخرا فاستغرقت في نوم عميق، معه لم تتحرك ساعتي البيولوجية لإيقاظي؛ فتعمقت في النوم، غير أني تململت من سماع صوت قريب من أذني. فتحت عيني بتثاقل رجل متعب، إذ بقطتي "بيسو" تقف بجوار رأسي؛ وتصدر قريبا من أذني صوتا أشبه بصوت من يلوك قطعة من اللبان "اللادن" أدركت لحظتها أنها تهمس في أذني تنبيها لإيقاظي، كانت رؤوفا بي، فلم تصدر مواء؛ واكتفت بهمس شفاه وديع، واستجبت واستيقظت.

غير أن المثير في الأمر هو تكرار الواقعة ذات ليلة أخرى؛ غير أن طريقتها في إيقاظي اختلفت، فقد تنبهت من نومي على حركتها وهي تمضغ الشعر الجانبي بجوار أذني، وعلى ما يبدو أنني لم أدرك سماعا صوتها حين كانت تحاول إيقاظي، فمضغت برفق شعر رأسي... وسبحان الله، فهل لا نصدق إذن أن النملة طلبت من رفاقها الدخول إلى مساكنهم ليحطمنهم سليمان وجنوده،،،،، وتبسم سليمان من قول النملة ضاحكا.

*****

قاعدة معرفوية أثبتتها "بيسو"

قطتي الراحلة "بيسو". دفعتني لمسلكية إدراكية بأننا قوم البشر مطالبون بالتأمل والتفكر في خلق السموات والأرض؛ وبالتالي خلق الله، لنصل إلى القناعة بأنه لا شيء خلق عبثا، وإنما لغاية، وهنا يحضرني مفهوم عميق، خلاصته هي "خذوا الحكمة ولو من القطط"، ألم يحرضنا الله جل جلاله على التفكر بالآية ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)؛ إذن فتفكري في مسلكيات قطتي "بيسو" ليس منفصلا عن الدعوة القرانية؛ بالنظر إلى الإبل، ولكل زمان شاهده؛ أو حيوانه الذي يدعونا للتفكر والتأمل.

لقد أكدت قطتي "بيسو" لدي قاعدة معرفوية مهمة جداً، مفادها أن الحيوانات تحب وتخاف فقط، ولا تكره أبدا، فعلا هذه النتيجة المهمة اكتشفتها من قطتي، وحين بحثت عنها في مجمل عالم الحيوان لإثباتها اكتشفت صحتها أيضا، فالحيوانات؛ كل الحيوانات حتى المفترسة لا يمكن أن تعيش حالة الحقد على الحيوانات المغايرة، ليست لديها مشاعر كراهية تجاه بقية الموجودات الحية الأخرى أو حتى البشر، ولكنها تمثل طرائد أو فرائس تسد بها الشعور الحيوي بالجوع، وحين يتحقق الشبع لا تحرك كل الحيوانات المفترسة ساكنا تجاه من طاردته.

*****

مُفَجِّرُ نفسه هل هو بشر؟

قطتي "بيسو" أكدت لي القاعدة التي نعرفها كبشر، وهي أننا لا يمكن أن نؤذي من نحب، اكتشفت أنها لا يمكن أن تؤذيني أو تسبب لي الألم ذات مرة، فهي كثيرا ما كان يروق لها أن تصعد للوقوف على جسدي وأنا مضجع على جانبي، كانت تتحرك بنعومة عجيبة، ولم تفكر ذات مرة أن تتشبث بأظافرها في ملابسي، والمعروف أن القطط تستخدم مخالبها لحفظ توازنها وثباتها على الأسطح التي تمشي عليها.

فكرت ذات مرة في استفزازها ضمن اختبار مدروس مني، فأمسكتها من ذراعها ومررت أصابعي أسفل كفها وبقوة، غير أن "بيسو" لم تمد ولو للحظة مخالبها، إنها تدرك أن المخالب تصيب بالألم، لذلك لم تفردها؛ وعجزت بنفسي عن استخراج مخالبها من مكامنها، وعرفت لحظتها أن الحيوانات أيضا تحب من تحبه، ولا يمكن أن تسبب له الألم.

إنها موجودات أكثر رحمة ممن يسمون بالخطأ بشراً تحت ظلال الفهم المغلوط للعقيدة؛ والذي زين لهم الشيطان أنهم يمكن أن يقتلوا بدم بارد بشرا أبرياء فيما يسمى بالعمليات الإرهابوية. وأقول خذوا دروسكم من حيواناتكم، وتعلموا منها الحب والرحمة.

حين كان أولادي يدخلون غرفتي؛ ويحاولون مداعبة قطتي "بيسو"... بطريقتهم الاستفزازية الشابة، كانت تهرب منهم وتحتمي بجانبي، لكنها في مواقف أخرى تتفاعل معهم حين يمشطون شعرها. فهي حين تهرب منهم لم تكن تكرههم، ولكنها تخشى طريقة مداعبتهم لها.


*****

من "بيسو" إلى قطط الشوارع

ومن "بيسو" الراحلة الى قطط الشوارع، التي كانت تخشى الاقتراب مني في البداية، لكنها حين وضعت لها الطعام صارت تقترب مني حتى تكاد تقفز الى مقعد سيارتي بألفة، وهذا يعني حقا أن الحيوانات تحب وبقوة، ولا تشعر بأية مشاعر من البغض لكل من يتحرك حولها.

حينما كنت أهبط من بيتي في طريقي إلى سيارتي، أكتشف في أوقات كثيرة أعدادا من قطط الشوارع تنتظرني؛ وتمشي وهي تحيط بي في تظاهرة عجيبة؛ تطلق أصوات المواء المستمر، لأَنِّي سأضع لكل منها حُفنة من الغذاء "المقرمش"؛ والذي أدمنت تعاطيه من كثرة ما وضعته لكل منها قبل أن أقود سيارتي، والعجيب أن العديد منها أراه يترقب موعد عودتي ليلا منتظرا ليحظى ببعض تلك "المقرمشات".

أعتقد أن قطط الشوارع تلك تمتلك تصورا ذهنويا عني بأنني بالنسبة لها "رجل الشيبسي" الذي يوفر لها مذاقا محببا؛ بالتأكيد لا تجده في أكياس القمامة الملقاة في الصناديق قبل أن تحملها سيارات البلدية.

*****

درس الموت لمن أراد أن يعلم

وهنا أصطحبكم إلى درس محدد من النهاية، وهو "درس الموت".

الموت هو الموت، سواء للبشر أو للحيوانات أو للحشرات، أو للطيور، هل تعرفون أن الموت حالة فيزيقية واحدة لكل الموجودات الحية وربما الجامدة، الموت نظام منهجه واحد، ودال على الله المحيي والمميت، الموت دالة على وجود الله الحق، أسلوب الموت واحد، طريقته واحدة، تتلاشى الحياة من أسفل أي الأقدام إلى الأعلى الرأس.

قطتي "بيسو" حين دخلت مرحلة الموت كانت درجة حرارتها تتجه إلى البرودة من النصف الثاني؛ من الأقدام مرورا إلى المقدمة، الرأس كانت تصدر صوتا أشبه بالشخير؛ هو صوت نزوع الروح الخارجة من الجسد؛ وقد استسلمت إلى الأرض التي ستدفن بداخلها، كانت من دون حول أو قوة؛ وكذلك كنت أنا أكثر عجزا عن فعل شىء تجاه منع موتها؛ كانت تموت موتا أشبه بالموت البشري، أحيانا ينتفض ذراعها انتفاضة خفيفة، إنها دلالة مرور الحياة من مساربها إلى خارج الجسد. كنت ألمح في عينيها نظرة الوداع.

الموت يا أصدقاء دليل دامغ على وجود الخالق الحي الذي لا يموت، لأن أسلوب قبض الروح الذي عرفناه في عالمنا واحد؛ يشترك فيه كل ذي روح، شاهدته تطبيقا على بعض الأعزاء من البشر؛ وأنا أراه نفسه أيضا في حالة موت قطتي "بيسو".

*****

بالمناسبة أحبوا كل الموجودات الحية؛ فهي شريكة حياة لنا تعاني كما نعاني؛ ونهايتها مشابهة تماما لأسلوب نهايتنا... الموت.

حكايات قطتي الراحلة "بيسو" التي ذكرني بها "فيسبوك" كثيرة؛ ومن حقها علي أن أسجلها وفاء لذكراها الجميلة، لعل هناك من سيتذكرنا بخير ذات يوم!

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).